جعفر بن محمد البيتي

في مسيرة الشعر المدني في عصوره المختلفة وقرونه المتتابعة محطات يتوقف عندها الدارس باحثا ومتأملا، ويتوقف عندها هواة الأدب وشداته لينهلوا من معين أدبي عربي بالغ العذوبة والصفاء، من تلك القرون التي لمع فيها نجم الشعر المدني القرن الثاني عشر حيث ولد وتوفي الشاعر المدني الكبير جعفر بن محمد البيتي (1110 _ 1182)..

يقول الناقد والباحث الدكتور محمد الدبيسي:

(  في بواكير قراءاتنا في الأدب الحجازي، كنا نمرُّ باسم جعفر البيتي، الشاعر المدني، الذي لا يكاد يخلو من ذكره كتاب عن الشعر في حقبة القرن الثاني عشر. وكان يشدنا، ويستدعي ملاحظتنا؛ ما يخصه به الكاتبون من إشادة، وإشارة إلى الروح التجديدية، والشاعرية الأصيلة،عند ذلك الشاعر المُجيد. وكان الأستاذ عبد القدوس الأنصاري من أول من أشار إلى أدب البيتي وشعره في مقالات نشرها في مجلة المنهل عام 1357هـ ، وتلاه في ذلك الأستاذ محمد علي مغربي في كتابه: (أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري وبعض القرون الماضية)، ثم الدكتور عاصم حمدان في كتابه: (صفحات من تاريخ الإبداع الأدبي بالمدينة المنورة)، وإلى ذلك دراسات أخرى عُنيت بأدب تلك الحقبة، ولا سيما الشعر، الذي وُصف بالاتباع والضعف والانحطاط، على نحو ما شاع في مؤلفات عديدة، تداولت هذه المقولة، وأشاعتها وكرَّستها،وأنزلتها على حقبة كاملة، دون فرز أو تحقيق دقيق ).

كان البيتي ابن عصره فهو شاعر وناثر فحل متين التكوين أصيل الثقافة، حاضرًا في الحياة الاجتماعية بدرجة حضوره وظهوره في الحياة الأدبية، وهو حاضر في تاريخ المدينة المنورة السياسي في القرن الثاني عشر حضوره في التاريخ الأدبي.

والبيتي شاعر ينظم على منوال كبار شعراء العربية ويستلهم منهم فنيته التي أنزلته منزلته السامية في ديوان الشعر المدني، يقول متغزلاً:

فقدنا للميا ليلها ومقيلها         وزدنا فقدنا رسلها وكتابها

لك الله ملّينا الغياب وملنا           لعل عسى لمياء ملت غيابها

فيامن لروحي من يداوي سقيمها   ويغنم فيها أجرها وثوابها

ألا وأبي من بعدها وغلامها       يبلغ عني بالعقيق عتابها

فلا تعتبي ياميّ دهرًا أشابني       فما أنا إلا من رجال ٍ أشابها

لياليك هذي دأبها الأخذ والعطا      ولا تترك الأيام ياميّ دابها

كما أخذت تعطي وفي الله لي رجا   عسى راهب الخيرات يفتح بابها

والشاعر ممن جرب أحوال الحب وتقلب  بين مسراته وأحزانه، وليس له محبوبة واحدة فهو يصرح بأسماء محبوباته في موضع واحد بطريقة قد تعدم صدق الشعور لكنها لا تعدم الحرفية والقدرة الشعرية  :

خذوا من تراب ديار سلمى        وحطوه على كبدي الضنيّة

من الأرض التي داست سليمى   من الأرض التي داست لميّة

ألا لله من دائي وسقمي         وهمي من فراقك يا سميّة

ومن الأغراض التي طرقها الشاعر  الرثاء، يقول الدكتور سالم السميري صاحب كتاب (جعفر البيتي شاعر المدينة المنورة في القرن الثاني عشر الهجري 🙁 ومع حضور الرثاء في شعر البيتي إلا أنه كان حضورًا أقل بكثير من حضور الأغراض الشعرية المذكورة سلفًا. حيث جاء رثاؤه في قصائد معدودة. غير أن قلة هذه القصائد لم تمنع من تعدد موضوعات، فقد رثى الشاعر الأقارب، والأشراف، والعلماء، والأصدقاء، كما رثى المدينة المنورة في بعض فتراتها التاريخية).

يقول شاعرنا راثيًا أباه:

سنبكيك حتى ينفد الدمع والبكا      وحتى توارينا لديك   المقابرُ                                                            

وتبقى لنا في منطوى القلب والحشا   سريرة حزنٍ يوم تبلى السرائرُ

فلست قليلا أن تغضّ لك النهى   طويًلا وأن تبكي عليك البصائرُ                                                          

لقد طرق الشاعر بإجادة وتفنن كل الأغراض المعهودة في الشعر العربي حكمة مدحًا وهجاءً وفكاهة وإخوانيات بل إن له منظومات علمية وألغاز، فكان بحق ممثل الشعر المدني في القرن الثاني عشر الهجري وأحد رموزه الكبار على مدى تاريخه المديد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟