صديقي.. التقدمي!

كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عن صديقي الذي يزعم إنه أحد المثقفين القلائل في المجتمع، هو لديه (مقومات خاصة) تبرز من خلال الجرأة بتنوع الطرح والخوض في كل مجال نقاش، صديقنا يطرح موضوعات وكأنه أبوها! مع ما يرافق طرحه من حماسة زائدة إلى حد الغلو والتطرف.

يستوقفني طرحه لموضوعات أعتقد جازمًا إنه لم يدرك منها إلا لفظ المصطلح!

كان يختار من يتحدث معهم بعناية شديدة، فإن صادف وجوه جديدة فقد ظفر بصيد فريد، فتظهر على تلك الوجوه الدهشة والإعجاب، وهذه كأنها وقود تجعل صديقي يشعر بالزهو والتفرد، ويتقدم خطوات في التنظير والاستعراض الثقافي، ولكن (قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل).

لديه مخزون ثقافي ولغة جيدة، وإن كان يشعرك وهو يتحدث وكأنه يجبذ من قاع البئر دلوًا من حجر!

عن نفسي أعرف ثقافة صديقي جيدًا، وسأخبركم مستوها آخر المقال، ولكن سأواصل الحديث عن مواقفه في الحوار مع الآخرين.

جمعتني معه جلسة في ضيافة اجتماعية، وكان المضيف قد دعا بعض أقاربه وجيرانه، في البداية كان المجلس خفيف ظلٍ، ثم اتسع بحضور عدد من المدعوين، وصديقي ما زال متصدرًا المشهد بحديثه في قضايا لا يعرف مضيفنا – ومن معه- منها شيء إلا الإعجاب بحماسة صديقي وجرأة طرحة، والمصطلحات التلفزيونية التي يكررها بين الفينة والأخرى، وسط دهشة الحضور وانجذابهم بصريًا وسمعيًا إليه.

اكتمل الحضور تقريبًا والحديث كموج بحر هائج لا تدرك نواياه واتجاهاته، فجال نحو الاقتصاد والمال والبنوك والأزمات الاقتصادية، وصديقي لا يفتأ يفتي وينظّر ظانًا إنه يمتلك معلومات صحيحة ويتفرد بها عن الآخرين، كنت أراقب المجلس والجالسين، و أحسست بنظرات في طرف المجلس المقابل وهمس تجاه شاب هادئ، فتداخل أحدهم وقال معنا متخصص في المال والاقتصاد ومستشارًا ماليًا في إحدى الشركات الكبرى، وطلب منه المشاركة في الحوار، وبجملتين فقط نقض كلام صديقي الذي أخطأ هذه المرة في انتقاء من يتحدث معهم، فتذكرت المثل ” إن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارا”!

وحين غادرنا المكان، سألته عن الشاب (المستشار المالي) فقال هذا حافظ كلمتين ولم أناقشه كي لا أحرجه عند ذويه! “يا لطيف”!

إن ثقافة الواتساب والتيك توك وما شابهها لن تبلغك المراد، وكذلك انكفاؤك على جلساء من نوعية خاصة لتكون محل إشادتهم وإعجابهم سيكون سقوطًا عند أول اختبار حقيقي.

الثقة بالنفسة مطلب، ولكن بلا إفراط.

صديقي محلل سياسي.. كان يتحدث عن المدارس السياسية، ويتحدث عن اليسار واليمين والرأسمالية والاشتراكية والتقدمية، والليبرالية

يفتى ويعرّف المصطلحات بشكل عجيب، سألته ذات مرة عن المقصود بالتقدمية. فقال بكل جرأة وثقة هو اتجاه سياسي تستخدمه الجيوش في الحروب! “يا لطيف”!

يقول الأستاذ الجامعي الدكتور محمد بن راضي: (الضجيج والزعم الكاذب الذي يصدره الأدعياء كفيل بأن يطمس كل جهد أصيل للبناء، وأن يصم الآذان عن صوت الأصالة البنّاء. إنها حمى الكيتش والهياط التي تجتاح لتوهم أن السراب بقيعة منجز يدعو للزهو والمباهاة).

بالمجمل هذا الصديق أنموذج للعديد من المدعين للثقافة. وربما كل من يقرأ هذا المقال، يخطر بباله بعضهم.

وللفائدة فالتقدمية باختصار هي (فلسفة عامة سياسية تقوم بتقديم الدعم أو تعمل لصالح الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التدريجية، عن طريق الإجراءات الحكومية. وبرز التطور الحديث كجزء من استجابة عامة أكبر، للتغيرات الاجتماعية الكبيرة التي قام التصنيع بإحداثها.

وهي على النقيض من عقيدة المحافظين (اليمين) المقاومين للتغيرات العامة، ومن العقيدة اليسارية الثورية، التي ترفض النهج التدريجي.

ويختلف استخدام هذا المصطلح باختلاف الأنظمة).

تذكرت بيتًا لأبي نواس (فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً     حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ)

وهو من قصيدة مطلعها (دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ       وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ)

وغالبًا أقل الناس حديثًا أكثرهم فهمًا ومعرفة، وأكثرهم حديثًا أقلهم فهمًا ومعرفة.

فالصمت لا يعني دائمًا عدم المعرفة، بل ربما يعني المعرفة الحقيقية.

يقول فيثاغورس: (الصمت أفضل من كلمات بلا معنى)، ويقول الأديب والروائي ارنست همنغواي: (يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلم الكلام وخمسين سنة ليتعلم الصمت)

والأصمعي يقول: (أوّل العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل، والخامس نشره)

             قفلة: (تعلمت الصمت من الثرثار) * جبران خليل جبران

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟