
التقارب والتباعد الاجتماعي
رمضان شهر الصيام وشهر القرآن، الشهر الكريم، الذي تتغير فيه العادات التي اعتاد أفراد المجتمع عليها طيلة أيام وشهور السنة، وما أن يهل شهر رمضان حتى يتغير (الروتين) العام ليتحول إلى (طقوس) خاصة تحمل في مبانيها ومعانيها قيمًا سامية، بداية من رقة القلب ولين اللسان وبعض الوجدانيات الأخرى كتذكر المحتاجين والأقارب والجيران في ظل ما خيم على المجتمع من شغل وانشغال في مهام بعضها تقتضيه الضرورة وبعضها الآخر وهو الأكثر اقتضته سلوكيات ومصالح أخرى مختلفة وليست ضرورية البتة!
يحاول البعض أن يعيش ومن حوله شهر رمضان بعادات قديمة نشأ عليها متجاهلاً توالي (الجديدين)، وما وصل إليه الناس في هذا الوقت من متغيرات اجتماعية، فالجوار لم يعد كسابق عهده في سنوات خلت، حين كان الجوار ثابت ومستمر لفترات طويلة، أما اليوم فالجوار متغير فجارك اليوم ليس هو في الغد، والتقارب الأسري لم يعد كما كان فالإخوان والأبناء تغيرت محال سكناهم حسب انتمائهم الوظيفي والعملي وكذلك الأقارب والجيران، وعليه فالتزاور محدود بأوقات معينه، وربما بمواعيد مسبقة!
كل هذه المتغيرات التي يعاني منها (الاجتماعيين بالطبع) طيلة السنة، ويعاني من هم أقل درجة في (الاجتماعية) في رمضان هي أمر منطقي بالنسبة للجانب المادي، أما الجوانب الوجدانية فالنفس فيها ما فيها من غصات وألم بسبب البعد والتباعد.
يقول المتنبي: أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
أَما تَغلَطُ الأَيّامُ فيَّ بِأَن أَرى بَغيضاً تُنائي أَو حَبيباً تُقَرِّبُ
يقول الشاعر علي محمود طه في قصيدة (الشوق العائد):
اهدئي يا نوازع الشّوق في قلبـي فلن تملكي لماض رجوعا
آه هيهات أن يعود ولو أفـنيت عمري تحرّقا وولوعا
آه هيهات أن يعود ولو ذوّبت بقلبي صبابة ودموعا
فاهدئي الآن يا لثورتك الهوجاء جبّارة تدك الضّلوعا
وهذا البهاء زهير (من شعراء العصر المملوكي) يقول على نحو ذلك:
خَليلَيَّ مَن أَشتاقُ في البُعدِ مِنكُما فَلو كانَ شَوقاً واحِداً لَكَفاني
خَليلَيَّ وَجدي كَالَّذي قَد عَلِمتُما فَهَل مِثلَ وَجدي أَنتُما تَجِدانِ
ويقول في نفس القصيدة: كَأَنَّ غُرابَ البَينِ يَومَ فِراقِنا أَعارَ فُؤادي شِدَّةَ الخَفَقانِ
عَلى أَنَّني ذاكَ الوَفِيُّ الَّذي لَهُ عُهودُ هَوىً تَبقى عَلى الحَدَثانِ
ويقول ابن علوي الحداد معبرًا وفي نفس المعنى:
بعثت لجيران العقيق تحيتي وأودعتها ريح الصبا حين هبت
سحيراً وقد مرت عليّ فحركت فؤادي كتحريك الغصون الرطيبة
إلى أن يقول مذكرًا بأن هذا هو حال الدنيا في الحل والترحال والنزول والانتقال:
وما بعدهم عني ولا البعد عنهم بحال اختيار بل بقهر مشية
وحكم إله العالمين منفّذ على كل حال والرضا خير قنية
وهنا محمد المعولي من شعراء العهد العثماني ومن أهل عمان المرموقين يقول ضمن قصيدة فيها شجن بسبب البعد في باب النصح والإرشاد:
نعم قد جرى التقصير منا وأنتم تُقيلون زلاّتِ توالت لتائبِ
وما عندنا عُذْرٌ ولكن صفحكم ينبِّئنا عن سَدِّ كل المثالبِ
فسالِمْ وسامح واعفُ واصفح وسُدْ وجُدْ وطُلْ واحتمِلْ واغفِرْ وناصح لآيبِ
عليك سلامي كل حين وساعة متَى لاح بَرْقٌ في خلال السحائبِ
وعلى النقيض تمامًا تجد من الشعراء من لا يبدي انزعاجًا من البعد، فمما ينسب لعنترة العبسي:
فَلا تَحسَبي أَنّي عَلى البُعدِ نادِمٌ وَلا القَلبُ في نارِ الغَرامِ مُعَذَّبُ
وَقَد قُلتُ إِنّي قَد سَلَوتُ عَنِ الهَوى وَمَن كانَ مِثلي لا يَقولُ وَيَكذِبُ
وكذلك لـ(تميم البرغوثي) فلسفته الخاصة يقول:
وما كلُّ نفسٍ حينَ تَلْقَى حَبِيبَها تُسَرُّ ولا كُلُّ الغِيابِ يُضِيرُها
فإن سرَّها قبلَ الفِراقِ لِقاؤُه فليسَ بمأمونٍ عليها سرُورُها
وعليه فالبعد والابتعاد ظاهرة اجتماعية حتمية، ويجب التعامل معها بكل إيجابية، من خلال التواصل عبر المتاح من الوسائل، وإن كان أفضل الأعمال التي يمكن أن تكون في هذه الحالات هو الدعاء بظهر الغيب.
وخاصة تذكر من رحلوا عن هذه الدنيا.
فهذا الكبير الشاعر محمد مهدي الجواهري يقول في نزف عاطفي حزين في رثاء زوجته (أم فرات)
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا. ويقول في أبيات لاحقة:
إنّا إلى اللهِ! قولٌ يَستريحُ بهِ ويَستوي فيهِ مَن دانوا ومَن جَحدوا
مُدَّي إليَّ يَداً تُمْدَدْ إليكِ يدُ لابُدَّ في العيشِ أو في الموتِ نتَّحِد
ومن خلال ما تقدم دعوة للجميع بأن لا يعيشوا في الماضي، فالماضي لن يعود أبدًا، ولكن المهم هو التعايش مع ظروف الحاضر بكل ما فيه من حلاوة ومرارة، وعدم الاستسلام والاسترجاع والبكاء على ماضٍ فائت لا يرافقه إلا الهم والحزن، بل العيش حسب الواقع والتكيف مع مقتضى الحال.
(وَما صَبابَةُ مُشتاقٍ عَلى أَمَلٍ مِنَ اللِقاءِ كَمُشتاقٍ بِلا أَمَلِ) * المتنبي