لا تستفتِ مدنياً في الغناء

ختمت المقال السابق بـ (لا تسأل مدينيًا عن الغناء في الأسبوع القادم) وها نحن على الموعد، والصواب في النسبة للمدينة المنورة مدني لا مديني وذلك للتفريق والتفضيل عن النسبة لأي مدينة.
الغناء في المدينة كان موجودًا منذ العصر الجاهلي واستمر وإن انشغل الناس عنه في عهد النبوة وبدايات الخلافة الراشدة، فحديث ” يا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بالقَوَارِيرِ” و(طلع البد علينا)، ويوم حفر الخندق والهزج الذي يصاحب علمية الحفر، وغيرها تدل على وجود الغناء لكن بصورة مختلفة عن تصورنا للغناء بثوبه الحالي.
وفي عهد الخلافة الأموية وبُعد المدينة عن التجاذبات السياسية ووفرة المال والتغير الاجتماعي الذي طرأ على المجتمع المدني المتمثل في بناء القصور والمأكل والملبس وغيرها من مظاهر الترف رافقها حالة من ميل إلى ممارسة بعض وسائل اللهو ومنها الغناء.
فاشتهر المغنون والمغنيات بل فتحت دور للغناء يقصدها الناس بكافة مستوياتهم، يقول صاحب الأغاني إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ولا يدفعه عابدهم.
ويقول إن العقيق إذا سال وأخذ المغنون يلقون فيه أغانيهم لم تبق في المدينة مخبأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره.
فاشتهر الغناء والمغنون وذاع صيتهم في الأقطار فتوافد إليهم كل من ينشد هذا الفن لينهل من علم فنهم ويعود ليبسطه في موطنه واقليمه.
وأكثر من ذلك حيث وضعت له أصول (يقول ابن الكلبي إن غناء العرب قديمًا كان على ثلاثة أوجه النصب والسناد والهزج) والسناد والهزج يسميهما صاحب الأغاني الغناء المتقن فالسناد هو الغناء الثقيل والهزج ضرب من الغناء الخفيف.
وقد نسب أبو الفرج الهزج إلى طويس والغناء الثقيل إلى سائب خاثر، وأن عزة الميلاء أول من غنت من النساء الغناء الموقع.
ومن أشهر المغنين في ذلك العصر (هيت والدلال وطويس-وهو شيخ المغنين- وفند ومعبد ومالك بن أبي السمح الطائي وابن عائشة ونافع بن طنبورة وبديح المليح ونافع الخير وقائمة من الأسماء الأخرى) أما من المغنيات فاشتهرت (الفرهة وعزة الميلاء وجميلة -التي كانت لها الدار الكبرى للغناء- وحبابة وسلامة وخليدة وعقيلة والشمّاسية وفرعة وبلبلة ولذة العيش وسعيدة والزرقاء…)
أما الآلات الموسيقية التي كانت تصاحب المغنين وقتذاك فهي الصنج والمزهر والقضيب والدف والطبل والمزمار وحتى العود والطنبور يُظن أنهما عرفا في العصر الجاهلي.
ومما يذكر أن عبد الرحمن الداخل حين استقر له الأمر استقدم عدد من المغنيات من المشرق ولا سيما من بغداد والمدينة ومنهن (فضل المدينة وعلم المدينة وصواحب غيرهما) وإليهن تنسب دار المدنيات بقصر عبد الرحمن الداخل، وما كان يحتضن من فعاليات فنية.
والقصص والروايات لا حصر لها تحت هذا الباب، واستمر هذا الفن ينشط تارة ويخبو أخرى حسب ظروف المكان وتحولات الزمان.
وعن مقولة (لا تسأل مدنيًا عن الغناء) فهي مقولة أدبية شعبوية لا أصل فقهي لها، وإنما تقال نظرًا للتوسع في قبول الغناء عند البعض، وهناك تفاصيل كثيرة حول هذا الرأي له مؤيدوه ومعارضوه، والمعارضون أشد ضراوة في الطرح وأقوى حجة والمؤيدون لا يهتمون بنقاش يرونه بلا فائدة نتيجة قناعتهم برأيهم تاركين لغيرهم عناء الجدل والتنظير.
ومما يروى قول الإمام الأوزاعي (نتجنب من قول أهل العراق خمسًا، ومن قول أهل الحجاز خمسًا)..، وذكر من قول أهل الحجاز: استماع الملاهي. (سير أعلام النبلاء -131/7) فعلى ما يبدو أن لديهم توسع في قبول الغناء.
وبحسب المهتمين بالفن والغناء فإن المدينة رائدة فيه ومتفردة بتميزها عن غيرها، مع تميز أداء الأصوات فيها حتى وقتنا هذا، ولها فن خاص لكن للأسف مع ما يشهده هذا الوقت من تطور فني لم نجد من يعيد انتاج هذا الفن ويبرزه بحلة جديدة.
فمثلاً (طلع البدر علينا) التي يتغنى بها أهل المدينة في كل مناسبة باللحن الذي أدته أم كلثوم، فمن يستطيع أن يعيد اللحن الأصلي حسب المتاح من أخبار ومعرفة بالمقامات المشهورة بالمدينة، أظن هذا أمر جدير بالبحث من رموز الفن في المدينة.
ختامًا الكتابة حول هذا الموضوع كانت بحذر! واستقيت معلوماتي من كتاب الدكتور شوقي ضيف ” الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية” الطبعة الثالثة دار المعارف بمصر، ولم أتمكن من الحصول على مراجع أخرى ذات معلومات مجمعة فكأنها مغيبة عن المكتبات! وإن كانت المعلومات منشورة في كتب التراث العربي كالعقد الفريد لابن عبد ربه والأغاني للأصفهاني، ونهاية الأرب للنويري، والعصر الإسلامي لشوقي ضيف.
(باتا بأنعمِ ليلةٍ حتى بدا صبحٌ تلّوحُ كالأغرِ الأشقرِ
فتلازما عند الفراق صبابة أخْذَ الغريمِ بفضلِ ثوبِ المعسرِ) * عبد الله بن عمرو العرجي

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟