
من جادة قباء.. إلى بدر (٢)
جادة قباء التي رسمها واقعاً وإسماً وتاريخاً صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله وتابع خطوات تنفيذها بخطط محكمة ومكونات مدروسة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن خالد الفيصل بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة المدينة المنورة تعتبر تاريخاً ناطقاً بعمقها وفكرتها وأهدافها ومن خلالها تتجسد مواكب البطولات في مخيلة السائر بها تسير أقدامه بين مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء وصور شتى تتراءى له ويتحدث مع كل شبر يسير عليه أو ذرة رمل في هذه المدينة المباركة التي قبل ترابها أقدام سيد ولد أدم وصحابته الكرام ذهاباً وإياباً إذ لا يكاد يوجد شبر واحد في هذه البقعة إلا وهو يشرُفُ ويسجل تاريخاً مشرقاً للدعوة المحمدية ولخير البرية عليه الصلاة والسلام وصحابته الابرار..
إن جادة قباء وهي تختزن في داخلها وبين جنباتها تاريخ الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى تمد السائر فيها بشتى الأمجاد الإسلامية لهذه الدعوة إذ كلما فكر وتخيل واسترجع أي صورة أو بطولة يجدها حاضرة أمامه بكل تفاصيلها بعمق خاص وطعم مميز…
وبين ثنايا هذه الجادة وبالتحديد في يوم الاحد 19 رمضان من السنة الثانية للهجرة وبعد مضي بضعة أيام من مسير الهادي البشير بصحابته الكرام لتعقب القافلة القرشية التي يقودها أبو سفيان بن حرب عائدة من الشام أشرقت شمس ضحى ذلك اليوم في المصلى (موقع مسجد الغمامة) على تلك البشائر التي عادت بها القصواء وعلى ظهرها زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو ينادي بأعلى صوته بالنصر المؤزر لنبي الامة وصحابته الذين ساروا معه وقد اجتمع الناس فرحين مستبشرين حول هذا البشير وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والحكم بن هشام (أبو جهل) وزمعة بن الأسود وأبو البحتري العاص بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج…
صوت زيد بن حارثة يجلجل في الافاق حيث ارسله عليه السلام إلى أهل سافلة المدينة كما أرسل عبدالله بن رواحة إلى عالية المدينة يحملان البشائر بالنصر المبين للجيش الإسلامي في معركة بدر الكبرى التي صارت وقيعتها في يوم الجمعة 17 رمضان على أرض بدر وغنم فيها المسلمون الغنائم وقتل أئمة الكفر ورؤوس الطغيان في مكة… سبعون قتيلاً وسبعون أسيراً من نتائج المعركة…
لقد تغلغل الفرح إلى النفوس ودخلت البشائر إلى كل بيت وهو خبر أثلج الصدور وأشرقت له طيبة بأرضها وجبالها ووديانها وحوائطها والناس في ذهول لما يسمعون حتى أن أسامة بن زيد يوم أن سمع الخبر وقد فرغ للتو مع عثمان بن عفان من دفن رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيه وهو واقف على القصواء يبشر الناس ( يا أبتي… أحق هذا؟… قال (نعم والله يا بني…)
من جادة قباء يوم أن نادى البشير بالنصر خرج الاصحاب من المدينة في شوق وفرح وسرور لملاقاة نبيهم وأصحابه حاملين معهم التهاني والحب والإيثار ونفوسهم مستبشرة وقلوبهم متعلقة بخالقهم وكانت أرض الروحاء هي ملتقى القادمين من المدينة بالرسول الأعظم وصحابته ومع فرحهم وعمق حبهم وتهانيهم قال الصحابي الجليل مسلمة بن سلامة رضي الله عنه أمام الأسرى للحط من معنوياتهم ما الذي تهنؤننا به فو الله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن فنحرناها… فنظر اليه نبي الهدى عليه الصلاة والسلام مبتسماً وقال:( يا ابن أخي أولئك الملأ…) أي الاشراف والرؤساء وعلية القوم… إقراراً بمكانتهم وقدرهم وعلو شأنهم بين قبائل العرب…
وبين ثنايا جادة قباء ووسط صيحات التكبير والتهليل والفرح يملا قلوب المؤمنين دخلت رايات النصر من غزوة بدر الكبرى المدينة وراية التوحيد تخفق فوق الرؤوس والأنوار تشع من جنبات طيبة الطيبة وشاهد أهل المدينة الأسرى وقد وثقوا بالحبال ودحض الشيطان وحزبه وكسرت شوكة الطغاة وسارت الاخبار في فجاج الأرض بين القبائل في الجزيرة العربية ومن يومها صار لهذه الدولة الإسلامية كيان ومكانة وعزة وسؤدد يحسب لها ألف حساب…
ومن جادة قباء أسرع الاصحاب الذين لم يشهدوا المعركة إلى نبيهم عليه السلام مقدمين الأعذار ومتأسفين على عدم مشاركتهم لإخوانهم في هذا الشرف العظيم لظنهم أن الغرض ليس المعركة وإنما هي العير وعلى رأس أولئك الصحابي الجليل أسيد بن حضير زعيم الأوس حيث وقف أمام الرسول معتذراً وهو يقول:( يا رسول الله الحمد لله الذي اظفرك وأقر عينك والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا اظن أنك تلقى حرباً ولكنني ظننت أنها العير ولو ظننت أنها الحرب ما تخلفت…)
ومن جوار المصلى وعلى جادة قباء حينما دخل الاسرى ورأوا رايات النصر للإسلام تخفق في جنبات طيبة والناس والأرض والجبال يتردد بها صدى التكبير والتهليل وجموع المهنئين للرسول الأعظم يأتونه ايضاً مهللين ومكبرين ظن الأسرى أنهم سيلقون في طرقات طيبة ما لقيه النضر بن الحارث وعقبة بن ابي معيط حيث أمر الرسول بقتلهما في طريق العودة الى المدينة لما لقي منهما بمكة من أذى وسوء لفظ ومعاملة فإذا بمنادي الرسول الرحيم يصدع بقوله (…استوصوا بالأسرى خيراً…)
ومع إشراق أنوار طيبة وفرحها بذلك النصر المؤزر يعقد نبي الهدى عليه الصلاة والسلام مجلساً بمسجده من كبار الصحابة وقادة جيشه المظفر لتقرير مصير الأسرى وفي ذلك المجلس أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبدالله بن رواحه وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين وبعد نقاش وتشاور وقف الفاروق رضي الله عنه وقال يا رسول الله: (كذبوك.. واخرجوك.. قدمهم واضرب اعناقهم)
وقال أبن رواحه: يا رسول الله (انظر وادياً من حطب فأدخلهم فيه ثم اضرمه عليهم ناراً…) وكان العباس حاضراً وهو أحد الأسرى يسمع فقال لابن رواحه (قطعتك رحمك(…
وقال الصديق يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم وأستأثر بهم لعل الله أن يتوب عليهم…
سمع الرسول أقوال كبار الصحابة فغلبت شفقته صلى الله عليه وسلم بهم وعفا عنهم وأقر الفداء أو القتل وفاداهم على قدر أحوالهم ومن لم يستطع الفداء دفع اليه عشرة من أبناء المدينة لتعليمهم القراءة والكتابة حتى إذا حذقوا فذاك فداؤه…
وعلى جادة قباء مشى عمير بن وهب الجمحي بسيفه المسموم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم واظهر أنه جاء ليفدي ابنه وهب الذي اسره المسلمون ورآهـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأخبر النبي بخبثه واستأذنه في قتله لقيامه بتحريش قريش في بدر وعدائه للمسلمين فأمره عليه الصلاة والسلام بتركه وقال الرسول لعمير قصته مع صفوان بن أمية في الحجر والتزام صفوان بسداد دينه ورعاية أبنائه مقابل قتل النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسمع ذلك عمير وقال كنا نكذبك بما تأتينا به من السماء… وهذا أمر لم يحضره إلا أناو صفوان فوالله يا رسول الله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله وأشهد أن لا إله إلا الله واشهد انك رسول الله فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق فقال عليه الصلاة والسلام: (فقهوا اخاكم في دينه واقرؤوه وعلموه القران واطلقوا له اسيره)
وعلى جادة قباء أتت أم حارثة مسرعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أستشهد ابنها حارثة وهو يشرب من الحوض في بدر وقالت يا رسول الله حدثني عن حارثة إن يكن في الجنة لم أبك عليه ولكني أحزن فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ويحك أهبلت؟ أجنة واحدة يا أم حارثة إنها ليست بجنة ولكنها جنان والذي نفسي بيده انه لفي الفردوس الأعلى فرجعت أم حارثة من هذه الجادة وهي تضحك وتقول بخِ بخِ لك يا حارثة)
ومن على جادة قباء اقتيد سهيل بن عمرو العامري وكان من ضمن الاسرى وقد عرف بشجاعته وبلاغة منطقه وخطبه المؤثرة ضد محمد وأصحابه وتم فداؤه وكان مشقوق الشفة العليا قال عمر بن الخطاب يا رسول الله دعني أنزع ثنيته يدلع لها لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موضع أبداً فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا امثل فيمثل الله بي وان كنت نبياً ثم قال يا عمر دعه فعسى ان يقوم مقاماً تحمده ولا تذمه عليه) واسلم سهيل بعد ذلك ويوم وفاته عليه الصلاة والسلام ارتدت بعض قبائل العرب وانبرى سهيل وكان سيداً مطاعاً خطيباً وقال: يا أهل مكة لا تكونوا أخر الناس إسلاماً وأولهم إرتداداً من رابنا أمره ضربنا عنقه كائن من كان فكان لموقفه أثر كبير في قتل الفتنة في مهدها…
وهكذا شهدت جادة قباء صوراً شتى ومشاهد عظيمة يوم أن عاد جيش الإسلام منتصراً في أول معركة مع الكفر والطغيان في بدر وقد جللتها أنوار النبوة وبقيت أثار ومواقف وأحداث على جوانب الجادة شاهدةً على مر الزمن تخاطب العقول والوجدان وهي تكتنز تاريخاً مشرقاً ينساب في خيالات وأفهام وعقول كل السائرين على الجادة بين المسجد النبوي وقباء على مر العصور والأزمان.