أهمية التعليم الجامعي والجامعات العظيمة

بقلم: د. مها بخيت
وزير مفوض
مدير إدارة الملكية الفكرية والتنافسية بجامعة الدول العربية

قبل إسبوعين استلمت نسخة الكتاب التي طلبتها من دار النشر عبر الانترنت، وكنت حريصة على أن أنقل الخبر إلى الكاتب الصحفي والإعلامي المميز والأخ/ الأستاذ أحمد المسلماني، أخبرته بأنني أخيراً قد اشتريت كتاب جامعات عظيمة للكاتب جوناثان كول، ترجمة ناصر الحجيلان والذي صدر في عام 2016 ، ولقد قال لي الأستاذ أحمد المسلماني (سوف تستمتعين بقراءته).

لم أكن أتصور بأنني سوف أغوص في 682 صفحة من المتعة والعلم والمعرفة، ولقد شدتني المعلومات الموجودة في الكتاب منذ قراءتي لمقال أخي الأستاذ أحمد المسلماني في أبريل 2020 عن كتاب جامعات عظيمة، ذلك المقال الذي ذكر فيه أن جوناثان كول أستاذ جامعة كولومبيا بنيويورك وعالم الاجتماع المرموق ومؤلف كتاب جامعات عظيمة كان يروي لنا في هذا الكتاب قصة الجامعات البحثية العظيمة في أمريكا وكيف تحول الهدف من تعليم الطلاب إلى إنتاج المعرفة وإن جوهر الجامعات العظيمة في أمريكا هو تقديم العلماء وليس الخريجين.

بالرغم من أن الكتاب يتحدث عن تاريخ الجامعات الأمريكية ولكنه يعتبر نموذج للتعليم الجامعي في كل دول العالم وخاصة دول منطقتنا العربية، وأنا لا أقصد بهذا المقال الترويج للتعليم الجامعي الأمريكي ولا التحدث عن عظمة الجامعات الأمريكية، ولكن من قراءتي للكتاب رأيت أنه يصلح كمنهجية للتعليم الجامعي في الوطن العربي ولذلك أتمني أن يحرص كل مدراء الجامعات على قراءة هذا الكتاب، الكاتب يشرح كيف أن الجامعات العريقة في أمريكا كانت أصلها جامعات دينية وتحدث الكاتب تحديداً عن جامعة هارفارد والتي تم إنشاؤها في عام 1636 وكانت ذات نزعة دينية ولكن تم تحديثها في عام 1834 ليزداد عدد طلاب الطب في جامعة هارفارد إلى 80 طالبآ بينما كان عدد طلاب اللاهوت 30 طالبا.

بالمقارنة نجد في عالمنا العربي أن تأسيس جامعة الزيتونة في تونس يعود إلى القرن الثامن الميلادي وبالتحديد عام 737 وكانت مركز للدراسات الدينية تم تحديثها في عام 1956. ونجد جامعة الأزهر في جمهورية مصر العربية التي تأسست عام 970 ميلادية خلال العصر الفاطمي في مصر ونشأ الأزهر كمدرسة لنيل شهادة تخصص في العلوم الإسلامية بشتي تخصصاتها وتم إعتمادها كجامعة رسمية في عام 1961 ، وهكذا نجد أن فكرة التعليم الجامعي الديني موجودة أيضآ في المنطقة العربية، ولن أخوض الآن في بحث عن تاريخ الجامعات العربية وخصوصا أن كل المنطقة العربية تزخر بأقدم الجامعات الأكاديمية العريقة، ولكن أود أن أذكر أن البدايات كانت واحدة سواء كان في أمريكا أو العالم العربي وهي التعليم الديني ثم بعد التطور تحولت الجامعات إلى جامعة تنقل المعرفة إلى أن قامت الجامعات في أمريكا إلى الإنتقال إلى عصر البحث العلمي وتأسست جامعة جونز هوبكنز في عام 1867 لتكون أول جامعة بحثية مرموقة تهتم بالبحث العلمي، ولقد تم الاستعانة بالنموذج الألماني، لأن جامعات ألمانيا كانت هي الأفضل في العالم، وأمريكا اختارت أن تقلد النموذج الألماني في التعليم واختارت أن تنشئ جيل من الجامعات البحثية التي تشجع الإختراع والإبتكار والبحث العلمي لأن هذا هو سر تقدم الصناعة في أمريكا.
يمكننا القول أن فكرة الجامعات البحثية قد تم تطبيقها في المنطقة العربية ولكن بشكل مختلف وذلك من خلال إنشاء مراكز للبحوث في أغلب الدول العربية، فمنذ خمسينيات القرن الماضي نجد أن أغلب الدول العربية لديها مركز قومي للبحوث وتختلف التسمية من دولة إلى أخرى ولكن أغلب الدول العربية حرصت علي سن القوانين لإنشاء مراكز وطنية للبحث العلمي، لذلك الوعي كان مبكراً بأهمية البحث العلمي، والإرادة السياسية كانت حاضرة لدى أغلب الدول العربية، و لقد كان دور هذه المراكز هو إعداد الاستراتيجيات الوطنية للبحث العلمي وإجراء البحوث الأساسية والتطبيقية في المجالات المختلفة للعلوم وتعتبر هذه المراكز بيت خبرة للبحث العلمي والتطوير والإبتكار في الدولة، كما قامت عدد من الجامعات العربية بإنشاء مراكز بحثية مستقلة تتبع لهذه الجامعات.

الجميع يتفقون على أن الاختراع والابتكار والبحث العلمي يتأثر بالنمط التقليدي للتعليم لذلك لا بد من تحديث العملية التعليمية في الوطن العربي وذلك من خلال تبني خطط لتطوير التعليم العالي في الوطن العربي يكون الاهتمام فيها لتنمية البحث العلمي وذلك بزيادة الإنفاق على البحوث لنصل إلى نسب معقولة من ناتج الدخل القومي. كما لا بد من الاهتمام بزيادة نسبة الدارسين للعلوم والتكنولوجيا وزيادة المراكز البحثية وكل ذلك من أجل تغيير النمط التقليدي للنظام التعليمي الذي هيمن على المنطقة العربية لسنوات طويلة بين الانغلاق والروتين والخروج إلى مرحلة جديدة نحو الانطلاق والمرونة اللازمة لانفتاح الكوادر العربية على العالم والتعامل مع الواقع بأسلوب العصر في إطار اكتشاف المبدعين والموهوبين منهم، على اعتبار أن قضايا الإبداع الفكري والموهبة العلمية تعد أساساً للتنمية والتطور وتعتبر أحد المقاييس التي تقاس عليها التنمية في المجتمعات المعاصرة.

ضرورة الاهتمام بالبحث العلمي ودعم ميزانيته وتيسير الوصول إلى المعرفة وتوثيق الصلة بين مراكز البحوث العربية وتوطين التقنية الحديثة وتشجيع ورعاية الباحثين والعلماء والاستفادة منهم، كل هذه الرؤى اهتم بها القادة العرب وصدرت عدد من القرارات الداعمة لتطوير منظومة التعليم والبحث العلمي من قِبل القادة العرب في القمم العربية.

إذاً الوعي موجود عند كل الحكومات العربية بأهمية الابتكار والبحث العلمي والانفاق عليه ولكن أغلب هذه الدول تواجه تحديات عديدة مما يجعل الصورة تبدو غير واضحة للكثيرين وقد يعتقد كثير من الناس أن هنالك تقصير من الدول العربية أو الحكومات أو الباحثين ولكننا نجد هذا التحدي في أغلب الدول الأوروبية ودول أمريكا، ولكن نجحت هذه الدول في هذا التحدي والسبب الذي جعل جامعات أمريكا جامعات عظيمة يعود إلى كونها تستطيع أن تنتج نسبة عالية من المعرفة الجوهرية المهمة وتقدم الإكتشافات العلمية في العالم، كما أنها تستثمر في الشباب وتدربهم ليكونوا علماء وباحثين في العلوم التطبيقية والاجتماعية والإنسانية وفروع الهندسة والطب.

وفي ختام كتابه يؤكد الكاتب جوناثان كول على ضرورة أن تستمر الجامعات العريقة في اكتشاف أنواع جديدة من المعرفة وأنماط جديدة من التفكير لضمان إعطاء فرص جادة لتمكين الطلاب من الحصول علي مهارات ومعارف وخبرات ذات كفاءة مميزة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟